مع التدهور المستمر في الوضع الإقتصادي في مصر، وعدم استقرار الأوضاع السياسية وتدني الرؤية المستقبلية كلاهما بعيدة وقريبة المدى و وسط الجدال المستمر والإنقسام والإستقطاب الحاد الذي أُصيب به مجتمعنا، وبين تدني الهمة والإحباط بين طلاب الجامعات بمستقبل تنعدم فيه الأحلام تقريباً، يظهر بريق خافت وسط الظلام ينادي في أرجاء المدينة: هناك من يحاول تحسين الأوضاع، ولو بمجهودات شخصية.
انتشرت اليوم صفحاتٍ على مواقع التواصل الإجتماعي يُعرض عليها منتجات وخدمات ومبادرات يقدمها طلاب جامعي أو حديث التخرج وأصبح ذلك “البيزنس” الوظيفة الرئيسية للكثير بدلاً من الوظيفة التقليدية التي باتت من شبه المستحيل تقريباً الحصول عليها فأصبح الكثير من الطلاب يتطلعون إلى أعمال حرة يسوّقون لها من خلال استغلال التكنولوجيا الحديثة. وهو حلٌ ممتاز في رأيي المتواضع، ومخرج من أزمة لا نعلم كم سيزيد عمرها من أعوام.
لكن ثمة شيء لا يعجبني، بل يغضبني، عندما أتصفح تلك الصفحات والمواقع وذلك أنها غالبيتها كتبت باللغة الإنجليزية مع بعض الكلمات العامية التي لم يجد كاتبها مخرجاً من عدم إستبدالها، وتكون تلك الكلمات مكتوبة بالحروف الأعجمية (الفرانكو
أتفهم كثيراً أن هناك نسبة كبيرة من مدشني تلك المواقع حصلوا على تعليم أجنبي وربما قضوا بضع سنين في الخارج أيضاً ولذلك فإن اللغة الأجنبية تصبح أقرب إليهم و معبرة أكثر عما يدور في أذهانهم، ولكنني أقابل أيضاً جمل كتبت بإنجليزية ركيكة مضحكة .
فهل وصلنا إلى هذه الدرجة من احتقار اللغة العربية؟ هل أصبحت اللغة العربية ملكاً لطبقات المجتمع الدنيا فحسب؟ فإن أردتَ التسويق لمنتجاتك الفاخرة المصنوعة يدوياً يجب أن تتحدث الإنجليزية وإن أردت تنظيم ماراثون أو سباق دراجات لتشجيع الناس على الرياضة فمن إحدى الشروط أن تُجيد الإنجليزية، وإن أردت الإعلان عن منتجع سكني فاخر بالقاهرة أو بالساحل الشمالي فيجب أن يكون بالإنجليزية؟
ونريد العالم أن ينظر إلينا ويقدرنا ونحن ندفن حروفنا بأصابعنا التي جهلت أماكنها على لوحة المفاتيح وأذهاننا التي غطى الصدأ قواعد النحو والكتابة التي قضينا الكثير من الوقت لحفظها و صمها؟
حافلني الحظ في الصيف الماضي وسافرت إلى إيطاليا. الإيطاليين لا يجيدون الإنجليزية رغم أنه يأتي إلى إيطاليا قرابة 40 مليون سائح سنوياً من جميع أنحاء العالم، ولكنهم يفضلون التمسك بلغتهم وجعل العالم كله يقع في حب تلك اللغة الموسيقية وإجبارهم على التعلُم بعض الكلمات كتذكار خاص منهم .
الوضع مشابه جداً في دول أخرى في أوروبا. فبما أني تعلمتُ القليل من الألمانية في الجامعة والفرنسية في المدرسة كان بإمكاني فهم الأسعار عندما تخبرني بها البائعة و طلب القهوة بالحليب مثلاً. وإن كنت لا تعلم الألمانية أو الفرنسية فإما ستجد من يفهم القليل من الإنجليزية ويجاوبك بلغته أيضاً أوإن كنت محظوظاً فربما تجد عربي يعمل هناك!
ولكننا نُفضل استخدام الإنجليزية بيننا، وأنا لا أقصد هنا الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي فكل شخص له حرية الكتابة بأي لغة شاء، إنما حديثي هنا على مواقع وصفحات التسويقية ، والنشاطات الجامعية، والإعلانات الطبقية والمبادرات الاجتماعية الإيجابية منها والسلبية.
ولكن يبقى السؤال: هل يمكن أن يقوم بنا هذا البلد إن تركنا لغته ومعه ثقافتنا وإن وجب علينا تصحيح بعض العادات بها؟ هل يمكن أن تقوم تلك الشريحة المتحدثة بالإنجليزية دون سائر شرائح المجتمع؟
وما هي رؤية تلك المبادرات والمواقع والصفحات إن لم تكن في الأساس الإنتشار في مصر أو الزيادة في الأرباح؟ وكلاهما لن يتما إلا بالإنتشار بين طبقات وشرائح المجتمع المختلفة؟
وما هي حقاً هوية مصر في الفترة القادمة على يد جيل أَلِف التكنولوجيا منذ نعومة أظفاره؟ جيلٌ أتقن الفرانكو قبل دراسة العربية في المدرسة ، ونشأ على دستوره يُكتب ويُعدل دون فهم مواده وحقوقه؟
السؤال هو من نحن؟ الإجابة: عرب مصريون.
ولكن يبقى السؤال الأهم: من نريد أن نكون؟