“ليبرتا كانت مكتوبة”
“ليبرتا كانت مكتوبة”
تظل الكلمات لا تفارق مخيلتي.
كلما حاولتُ أن أشتت تفكيري وأفكر في شئ مختلف.. متى سأبدأ مذاكرة لامتحان نهاية الفصل الدراسي بعد أيام مثلاً، وكيف سأذاكر تلك المادة التي لا أفقه فيها شيئاً.. وماذا سأفعل في مشروع التخرج في الفصل الدراسي القادم..وكم أشتقتُ لصينية المعكرونة بالباشمل من يدي أمي ومتى سأترك هذه الدولة التي قتلت أبنائها بأيديها العاريتين الملطختين بالدماء..
“ياحكومة بكرة هتعرفي بإيدين الشعب هتنضفي..”
أجلس اليوم مع رفقائي بالجامعة التي لم تجمع سوى طبقة برجوازية وأخرى مدعية ذلك.. نجلس اليوم بعد قرابة نصف عام من اعتزالنا السياسة لنواصل حديثنا من حيث تركناه آخر مرة.
كلما أفترقت شفتاي لأتحدث، خرجت كلمات الأولتراس الغاضبة تندفق من غضبٍ كَمُن في قلبي سنوات، نارٌ أطفأتها حرب خاسرة شنتها قوى زعمة ثوريتها وصُدّقت أكاذيبها التى أُذيعت ملأً على الملايين، حربٌ حاولتُ ألا أُقاتل فيها أحداً باختياري الصمت الذي تمنيته سلاحاً ساكناً.
“والآية الليلة مقلوبة”
وفي وسط النقاش الساخن ظلت الكلمات تصرخ في أذني، صراخٌ خافتٌ وعالٌ في الوقت نفسه، صراخٌ جعلني أقفز من مقعدي عدة مرات. أنظر حولي، ربما أجد من يصرخ ربما أراه، أو يراني فيهدأ.
لم أسمع الصراخ منذ أشهر، ظننته تركني في شأني.
لم أشتاق إيه أبداً.
ولكن الصراخ مستمر، أنظر إلى من حولي وأسألهم عن صراخ.. ولكنهم لا يسمعونه ولا يفقهون عن ماذا أتحدث.
مازلتُ أسمع الصراخ. صراخ نداء واستغاثة،ذلك الصراخ الذي تسمعه في العزاء، صراخ امرأة فقدت أولادها، وأطفال قُتل أبيهم أو أخيهم، فتاة سُحِلت وتعرت، بكاء شباب فقدوا أعينهم وشوهت أجسادهم بطلقات لا ترحم الجماد حتى ترحم البشر. صراخ فتاة قُتل خطيبها قبل أياماً من زفافهما، وطفلٌ لن يعرف أبيه أبداً، وآلاف في الزنازين، وعشرات دُهِست أرواحهم بلامبالاةٍ ممن سُموا “مسؤولين”.
أقف من مجلسي، أضع يدي على صدري، وأُغني..
“بإدين الشعب هتنضفي”.
أحياناً عندما أكتب لا أعلم من يكتب بالضبط.. هل هي يديّ التي عاشرتها لواحدٍ وعشرين عاماً وثلاثة أشهر، أم الصراخ الذي علا صوته مجدداً بعد مشاهدة ذلك الفيلم الذي قلّب المواجع وأسال الدماء من الجروح مجدداً.
ولكنني على يقين بشئ واحد: إن كفرت بذلك الصراخ الذي أسمعه في أُذنيّ بين حينٍ وآخر، فإنني لا أكفر بروحٍ سُلِب حقها في الحياة، ولا دمعةٍ دُفنت مع دفن الأبناء ولأحباب، بل بحق إنسانيتي التي مُنِحت إليّ، وبحق عقول طالما أرادت أن تُقدر كما قدرت أمثالها في بلادٍ تنفست ربيع الحرية من قرون، وبحق بطون لم تعرف النوم وهي ليست جائعة، وبحق أطفال أخذت موجة بردٍ قارس أرواحهم بخساً.
سيظل الصراخ – وإن لم يسمعه الآخرون- أسمعه في أذنيّ.
“ليبرتا كانت مكتوبة”
***
فيلم الميدان ( المرشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي):
أغنية الأولتراس: